بسم الله الرحمن الرحيم
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً*وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً) الإسراء – 9 -
إن القرآن الكريم يمثل آخر حلقة في الكتب السماوية ، والمعجزة الخالدة التي تلبي حاجة البشر في كل زمان ومكان ،إذ وصفته الآية بأنه يهدي للتي هي أقوم ، فهو بذلك إمام يرشدهم إلى الطريق الصحيح ، ولو تأملنا في كلمة (أقوم) نجد أنها تحمل معنيين:
1-مشتقة من قيِّم وهي تعني الثبات والاعتدال والاستواء.
2-أقوم صيغة تفضيل من القيام وهو ضد القعود، والذي يكون الإنسان فيها في أفضل حالاته عندما يريد أن ينجز عمله.
وفي كلمة (أقوم) كناية عن حسن التصدي للأمور وإدارتها حال القوة .
ومن خلال المعنيين المذكورين يتبين أن القرآن هو أفضل وأقصر طريق للاستقامة والثبات و الهداية .
من ناحية عقائدية يتمثل بالعقائد السليمة و الواضحة التي هي أساس العمل، والتي تدفع الإنسان إلى الإعمار والبناء والتي توجد انسجاما بين الإنسان عالم الوجود والطبيعة من حوله، فقد تكفل هذا الكتاب النوراني بإثبات العقائد الحقة والمعارف الإلهية ، مثل: توحيد الله وصفاته كالعلم والقدرة ونحوها. فهناك من الآيات ما يستفيد منها العالم والجاهل على حد سواء ، فسورة التوحيد تنطق بوحدانية الله وحاكميته ، وهاهو قانون التمانع يثبت الألوهية لله وحده إذ تقول الآية ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) الأنبياء -22- وغيرها من الآيات .
ومن ناحية العبادات بينت هذه الصحيفة الربانية ما أوجب الله على عباده من الطاعات،كما في قوله (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) البقرة – 43- ، و في قوله (يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم ترحمون) البقرة – 183- ، وقوله (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً) آل عمران – 97- .
كما بين القرآن الكريم الأحكام من الحلال والحرام في المعاملات فقال (أحل الله البيع وحرم الربا)البقرة – 275-، وفي سورة المائدة-90- يقول (يأيها الذين أمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) ، المائدة -90-
وأما كونه الأقوم من جهة اجتماعية وأخلاقية فقد وضع القواعد التي تنظم حياة الفرد و المجتمع، والتي تؤمن لهم حياة طيبة في تعاملهم مع بعضهم البعض ، فمن تلك القواعد:
قوله تعالى : (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن*ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) الحجرات -11-
وقوله تعالى : ( يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) الحجرات -12-
بالإضافة إلى هذا كله فإن القرآن يعطي السلطات الحاكمة أنظمة وحدود تضمن إقامة العدل والإنصاف، فالآية الكريمة (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)المائدة-38- تحدد حد السرقة.
والآية الكريمة (الزاني والزانية فاجلدوا كل منهما مائة جلدة) النور-2- تحدد حد الزنا.
وقد بين القرآن القصاص في سورة البقرة -178- في قوله (يأيها الذين آمنوا كتب القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى)
أما على الصعيد الاقتصادي وضع القرآن الكريم معياراً للإنفاق يكون وسطاً بين الإفراط والتفريط، حيث تقول الآية الكريمة ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً)الإسراء -29-
كما أنه أوجب حقوقاً للفقراء والمساكين على الأغنياء في هذه الآية (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) التوبة -60-
وبهذا فإن القرآن الكريم هو الأسلوب الأقوم ، و بما يتصف به من مميزات الهداية والاستقامة والعدل، فقد تفوق على باقي الشرائع السماوية السابقة فضلاً عن سائر المذاهب السابقة.
فبالقياس مع الكتب السماوية الأخرى، فإن كل كتاب كان قيماً في خصوص الوقت الذي أنزل فيه، وقد كان كتاب هداية إلى البشر الذين أنزل عليهم، بخلاف القرآن الكريم الذي يعتبر الدستور الذي يوصل البشر إلى قمة الرقي والتكامل الإنساني يبلغ به البشر إلى أعظم حالات الرشد بما يحمله من تعاليم وقيم ومبادئ باقية إلى يوم الدين.
أما بالقياس مع المذاهب الوضعية فمن البديهي أن يكون القرآن هو الأفضل الأقوم عليها وذلك لأن تلك المذاهب هي خلاصة أفكار الذهن البشري المحدود المعرض للخطأ والسهو والغفلة ، فمن المحال عقلاً أن يصل اللا محدود إلى المحدود فضلاً عن أن يتفوق عليه.
وفي الجزء الثاني من الآية تتحدث عن موقف الناس من القرآن الكريم وهم على قسمين :المؤمنون الذين يعملون الصالحات وهي الفئة التي اتخذت القرآن كتاب هداية واستفادت من علومه ومعارفه فكان النور الذي يضيء لها دربها في الدنيا وبشارة بأن لهم أجرأً كبيرا في الآخرة ، والفئة الثانية هم الذين لا يؤمنون بالآخرة التي تركته وراء ظهرها واستبدلته بالذي هو أدنى من القوانين الوضعية فكان ذلك سبب شقاءها في الدنيا وعذابها الأبدي في الآخرة .
لكن..... كيف يكون القرآن الكريم كتاب بشارة وهدى ، وكيف ندخل في زمرة المؤمنين الذين يعملون الصالحات وننال بذلك كل تلك البركات ، والحال أننا نجهل معانيه ولا نعرف إلا رسمه؟
لكي نصل إلى تلك المرتبة لابد أن نتخذ من القرآن كتاب تعلم ودليلاً يأخذ بأيدينا إلى الطريق الصحيح بأن نصرف جلّ اهتمامنا في دراسة آياته ونتأمل ما تحمله من معاني من جهة ولا نقف فقط عند ألفاظه ونقوشه وما به من إعجاز وبلاغة وبديع فتشغلنا بذلك عن مقاصده الشريفة ، فقد قال الإمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلمإن أردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحسرة والظل يوم الحرور والهدى يوم الضلالة فادرسوا القرآن ؛ فإنه كلام الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان في الميزان ).
من جهة أخرى لابد أن نجعل القرآن ميزاناً نعرض عليه أعمالنا فإن وافقت القرآن الكريم كانت صحيحة وصالحة، وإلا كانت باطلة، وكذلك الحال بالنسبة إلى جميع المعارف وأحوال القلب وأعمال الباطن ، فقد حث الرسول صلى الله عليه وآله على اتخاذ القرآن إماماً حيث قال: ( عليكم بالقرآن فاتخذوه إماماً وقائداً ) عن فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام : ( اعلموا أن القرآن هو الناصح الذي لا يغش ، والمحدث الذي لا يكذب ، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ، زيادة في هدى أو نقصان من عمى).
نسأل الله الكريم أن يجعلنا من المهتدين بنور القرآن الكريم والعاملين به في الدنيا، ومن حملته يوم القيامة بحق محمد وآله الطيبين الطاهرين.