رؤيا فلسفية وعرفانية في قيمة ولادة الامام الحسين(ع)
باعتبارها منهجا ثوريا
نظرة عرفانية فلسفية في فسلجة الولادة
هل يمكن تعريف الولادة بانها محاولة قسرية للطبيعة في فصل كيان عضوي عن الكيان الام؟ قد يكون هذا المعنى مقبولا من وجهة نظر عضوية صرفة، لكن بالتأكيد لايمكن ان تحمل الولادة هذا المعنى العضوي المجرد، وهي ليست محاولة لسلخ نسيجين عن بعضهما البعض، بل انها عملية ابداعية تكاد تتجاوز قيمة الشكل الفني لتصبح رؤيا مستقبلية للحياة، فقيمة الولادة والخروج للحياة تكاد لاتختلف عن عملية الخلق أو النشأة الاولى ليس فقط باعتبارها إضافة نوعية للحياة، ولكن باعتبارها تفسيرا فلسفيا لغائية الوجود.
فالانسان عبر حركة الحياة في حالة تحول مستمر وهو يعيش ولادات لامتناهية، ليس وفق راي اصحاب التناسخ ولكن عبر ذلك التكرار المستمر لولادة الخلايا وتحولاتها البيولوجية الذي يفسر قيمة فسلجة الاعضاء، هذا فيما يخص الخلية الواحدة او عدد من الخلايا التي تشكل نسيجا ما فكيف بالانسان في مرحلة تكامل الخلق! وكيف يكون الامر عندما يكون هذا الانسان إماما معصوما يمثل استيعابا كليا للوجود، كما يمثل استيعابا كليا لحركة الحياة.
وبعد فكيف إذا كان هذا الامام هو الحسين بن علي عليهما السلام أحد الخمسة في آية التطهير ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) الاحزاب/33. هو أحد الخمسة في آية القربى ( لاأسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربي) الشورى/ 23. وهو أحد الخمسة في آية المباهلة ( فمن حاجك من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابنائنا وابنائكم ونسائنا ونسائكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) آل عمران/61. كما هو احد الخمسة في سورة الدهر. وفي كل هذه لايمكن اعتبار الحسين عليه السلام مجرد نسيج عضوي في بيت الرسالة ولو ان هذه النظرة الاعتبارية كافيه وحدها لنيل الشرف الرفيع، غير ان الوجود الحقيقي للامام الحسين عيه السلام يتمثل باعتباره قيمة عليا باتجاه الحركة المستقبلية للرسالة الاسلامية، فعندما يقول الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله: ( حسين مني وأنا من حسين، حسين وصي من الاوصياء ) فانه يتجاوز المفهوم العضوي والفسلجي للنسيج البشري، بل انه يتجاوز القيم الانية للوجود المعصوم مكرسا هذه العلاقة باعتبارها جزءا من الرسالة الخاتم في منهج استمراريتها، فالامامة في استيعابها الكلي للوجود تمثل امتدادا عضويا ونفسيا وواقعيا للرسالة الخاتم، باعتبار ان انقطاع الوحي لايعني انقطاع العلاقة بين المخلوق والخالق، وهكذا يصبح الامام الحسين عليه السلام بؤرة للاشعاع الرسالي تحمل قيم الامتداد والتطور والتحول عبر حركة التاريخ.
إن الموقف من الولادة سواء كان موقفا تاريخيا او فلسفيا او عرفانيا، يبقى موقفا يتجاوز الحالة العضوية باعتباره رؤيا مستقبلية في عملية التحول الانساني، فالحسين عليه السلام كان قد أثر في الوجود الكلي قبل نزول الوحي على الرسول الخاتم، فذكرت ثورته الكتب السماوية ليس فقط باعتباره سبطا من الاسباط، ولكن باعتباره ثورة رسالية، فكان شكلا من اشكال بشارة الانبياء والرسل، ومن هنا ذلك التماثل بينه وبين نبي الله يحيى بن زكريا عليه السلام، فكلاهما كان بشارة للوجود.
رؤيا في ولادة عقيدة الثورة الحسينية:
هل ولدت الثورة بميلاد الحسين عليه السلام؟ لاشك ان حركة التاريخ عرفت الثورات الاصلاحية منذ عصر آدم عليه السلام، وما قول هابيل لاخيه وقاتله قابيل: ( لأن بسطت الي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي اليك لاقتلك إني أخاف الله رب العالمين ) المائدة/28. إلا من تلك الروح الثورية فكانت منهجا للثورة السلمية على الظلم، وهو يبرر ثورته هذه بأنه يخاف (الله رب العالمين)، فلابد للثورة من أسس، ولابد لها من منهج يتماشى والعقل الانساني، والانسانية جبلت على الاحتياج الى ثورة ما، فكانت ولادة الانبياء والرسل والائمة والاوصيياء، ثورة بوجه الظلم والقهر والتعسف، ثورة بوجة القيم المنحطة.
فقد كان الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله ثوريا في كل جزئية من جزئيات حياته الشريفة، كان عنوانا لكل القيم الثورية في تراكماتها عبر حركة التاريخ، وعندما عرف الامام الحسين عيه بقوله: (حسين مني وانا من حسين) فانه كان في الجانب الاخر يقدم الامام الحسين عليه السلام باعتباره شكلا مستقبليا من أشكال الثورة الرسالية. لقد شكلت ولادة الامام الحسين في الثالث من شعبان ولادة جديدة في عقيدة الثورات الاصلاحية، فالولادة هنا تمثل منهجا في مستقبل الفداء، أليس جده الاعلى هو نبي الله أسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام؟ أليس جد أمه وصي الله عبد الله بن عبد المطلب عليهم السلام، فأي ولادة لحركة الفداء مثل الامام الشهيد؟! وإذا كان إبن سينا قد قال: ( لم يكن شجاعا فيلسوفا إلا علي عليه السلام ) فيحق لي ان اقول لم تعرف البشرية ولن تعرف إماما معصوما ومصلحا دينيا وفكريا واحتماعيا، ولا قائدا ميدانيا وقف لينظر الى مصارع ابنائه وابناء اخوته وأهل بيته ثم خيار اصحابه، وهو رابط الجأش صابرا محتسبا في جنب الله مثل الامام الحسين عليه السلام، لله درها من ولادة مباركة، لله درها من ولادة صنعت منهجا للفداء لم يعرف له التاريخ مثيلا.
لقد كان الامام الحسين عليه السلام ثوريا حتى في نظرته للثورة وتفاعله معها وتفعيلها، فهو رفض ان يخضع خضوعا كليا للحتمية الاجتماعية والتاريخية لانه عليه السلام ربط الحتمية التاريخية بالاهداف التي وضعها جده الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله، وقد ربط الحتمية بالقيم الاخلاقية والدينية، فولادة الامام الحسين عليه السلام كانت الثورة في حركتها نحو تحقيق الخلافة، كانت الثورة في تجاوزها لانية الحدث وانفتاحها على كونية الفكر الاسلامي ولما يجب عليه ان تكون الامة.
لاشك أن ولادة الامام الحسين عليه السلام لم تكن حدثا على غرار ما يمكن ان يسمى تكرارا لعملية الولادة المستمرة، وهي لم تكن مجرد موقفا سوسيولوجيا من علاقة الانسان بالحياة، بل جاءت لتكون تحولا جذريا في علاقة الانسان بالمستقبل، لقد إستطاع الامام الحسين عليه السلام ومنذ ولادته أن يحرك بركة الصمت فقد عرف المجتمع الاسلامي من خلال احاديث وسلوكيات جده وابيه عليهما السلام ان الامام الحسين عليه السلام يمثل الشكل المستقبلي للاسلام. فولادته جاءت لترسخ ولادة الاسلام بعقيدة الفداء، وليكرس الخط الرسالي امام الخط المنحرف، فهي ولادة للفكر الاصلاحي، فالولادة هنا ليست عبثية ( ولا يمكن ان توجد ولادة عبثية فالله عزوجل حاشاه من العبث) لكنها ولادة تتسم بالخصوصية لانها تنحو منحا رساليا، ولان ولادته تمثل شكل من الاشكال التعبديةالتي يتصف بها اهل بيت النبوة عليهم السلام، إذ انه حتى العلاقة الزوجية عند اهل البيت عليهم السلام تسير وفق منهج يرسخ علاقة الانسان بالخالق، فالتعبد لدى اهل البيت عليهم السلام لاينفك ان يكون جزءا من السلوك اليومي من مأكل وملبس ومنام ومحيا، فهم يتعبدون لله في كل آن.
توحد الولادة بعقيدة الانتظار:
يقف الفكر الاسلامي من حركة التاريخ ومن المستقبل موقفا تفاعليا، فالعلاقة بين الامامة والمستقبل علاقة تفاعلية تبادلية التأثير، فاذ اكانت حركة التاريخ المستقبلية تؤثر في الانسان، فأن الانسان يؤثر هو الاخر في حركة التاريخ ليس قديما فقط ولكن مستقبلا، حتى يصبح المستقبل نتاجا لعمل الانسان ووعيه الفكري، فكيف إذا كان هذا الانسان معصوما، عصمة تستوعب حركة التاريخ، ولماكانت الولادة المباركة تمثل مؤشرا تاريخيا مستقبليا، فهي بالتالي تؤسس لفكرة الثورة القادمة، فالعقيدة الاسلامية جاءت لتضع الاسس لغائية الوجود، إذ لاعدمية في الفكر الاسلامي، كما لاعدمية في التشريع، فالانتظار ليس مفهوما يعني الاستسلام الكلي للواقع وبالتالي الهروب منه الى الامام عبر عملية الانتظار لظهور المخلص، فالحلم بالمجتمع الامثل عند الفكر الاسلامي لا ينحو منحا ( هيكيليا – حسب موقف هيكل من المستقبل-) بل انه ينطلق من أسس واقعية فالامام المهدي عجل الله فرجه الشريف كما الامام الحسين عليهما السلام كلاهما انسان واقعي، حقيقي وليس جزءا من الخيال الاسطوري. لقد عاش الامام المهدي حركة التاريخ وعاصر احداثها وهو لايزال موجود ليس فقط ككيان ونسيج عضوي ولكن ايضا كرؤيا مستقبلية تمثل نهاية التاريخ من موقف عقائدي سماوي. وحيث ان المنطق العقلي يحكم بضرورة وجود مقدمات للفعل، فكان لابد ان يقدم لثورة الامام المهدي بسلسلة من الثورات الاصلاحية والفكرية، شكلت ولادة الامام الحسين عليه السلام وثورته بداية لثورة يتفاعل فيها الانسان والتاريخ والتكوين الكلي، فالانتظار الثوري يقدم تفسيرا عقلانيا للغائية التاريخية في ملازمتها للمعنى، والموقف الفلسفي من علاقة الولادة بعقيدة الانتظار، يتجاوز مسالة ان يكون موقفا ميتافيزيقيا مجردا، أو احتمالا لايخضع للمنطق العقلي، بل ان ولادة الامام الحسين عليه السلام المشحونة بكل اطياف الافق المستقبلي للانسانية وثورته الفدائية الاصلاحية تكرس الاستعداد النفسي للمجتمع في تحفزه لاقتراب عصر الظهور الملحمي.
فالولادة هنا يمكن ان تصبح تحفيزا للوعي الجمعي في عملية الانتظار انطلاقا من غائية الرسالة، باعتبار ان الفكر الاسلامي لايتحرك نحو المجهول، وبالتالي فان المجتمع الاسلامي يعي غائية الاستمرار.
هنا ندرك ان ولادة الامام الحسين عليه السلام لاتقع بعيدا عن الموقف المعرفي الذي يربط الولادة بالانتظار ( كمثل عليا ) بالواقع المثقل بالمحنة، فالوعي الاسلامي عاش محنة غياب الوحي بموت الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله، لكنه من جانب آخر يعي ان هذا الغياب، لايعني نهاية الفكر المستمر عبر عصور الامامة، كما لايعني انقطاع العلاقة بين الانسان والله، وهكذا فالولادة والانتظار يمثلان شكلا تركيبيا يجمع المفاهيم الواقعية والمثالية على حد سواء، وتأتي العقيدة لتفسر الانتظار باعتباره حكما شرعيا يكرس الاتجاهات المستقبلية للفكر الاسلامي. وهكذا فان كل من الولادة والانتظار تمثل تحديا لسلبية الواقع المنغمس في قيعان القيم المنحطة، فالولادة جاءت لتمثل انعتاقا من سلبية الوعي، ولتحرر العقل، كما انها جاءت لتعيد معايير القيم إلى المسار الصحيح، إذ ان الفكر الاصلاحي يعي اشكالية الخروج بالوعي من حالة السكون الى حالة الابداع.
وفي النهاية لايمكن انكار قيمة ولادة المعصوم باعتبارها ثورة تطلق مساحة لامتناهية من النور للخروج بالانسانية من ظلمة أنفاق الجهالة والظلم الى نور اليقين
.